فالحياة يُمكِن لها أن تتحقَّق ويتمَّ التواصُل بين أطرافها من خلال الوسائل غير اللغوية؛ مثل: الإرشادات والرُّموز البسيطة، وصَيْحات الإعلان عن الحاجة أو القَناعة أو السخط والرضا، وهو ما نلحظه على نِطاق واسِع، في عالم الطيور والحيوان من حولنا، وفي مراحل الطُّفولة المبكِّرة من أعمارنا، وعند ذوي الحواسِّ المُعَطَّلة الذين لا يُكَلِّمون الناس إلا رمزًا، ومع ذلك تَسِير حياتهم ويُعَبِّرون عن رغباتهم دون أن يَندَرِجوا في مَراحِل التعبير المُتَفاوِتة، وُضوحًا أو طلاقة، أو تصريحًا أو تلميحًا، ودون أن يَتفاوَت رصيدُهم الفكري التعبيري ثَرَاءً، ولا شكل المعرفة الموروثة عنهم ضَحالةً أو عمقًا.
لكن "اللغة" في شكلِها الذي يَتكوَّن من بِنيَة كلامية مُنتَقاة، تلقى العناية على يد أبنائها جِيلاً بعد جِيل في تشكيل أصول الصحَّة والجمال بها، وتستغلُّ بِنيَاتها الصحيحة الجميلة تلك أدوات لحمل الفكر الراقي والمشاعر السامية من فرد إلى فرد، ومن جماعة إلى جماعة، ومن جيل إلى جيل، وتَزداد اتِّساعًا على مستوى المكان، وثراءً على مستوى الزمان، هذه اللغة تَتجاوَز مهامُّها المَنُوطَة بها مرحلة مجرَّد قَضاء الحاجات، والتعبير عن الرغبات - إلى مرحلة بِناء الأفراد والجماعات، وتشييد المعارِف والحضارات.
واللغة العربية في ماضيها المجيد وتراثها العريق تأتي في مُقدِّمة اللغات التي نجحَتْ في القيام بدورها الحضاري الرَّفِيع، وارتَقَتْ بأمَّة من مجتمع الصحراء المتوارِي لتكون هي ولغتها قائدة الحضارة والمعرفة على مستوى العالم قرونًا عديدة مُتوالِيَة، ويَكفِي في هذا المقام أن نتذكَّر أنها شَرُفَتْ بحمل آخِر رِسالات السماء إلى الأرض بلسان عربي مُبِين.
لكنَّ اللغة في حاضِرها اليوم في حاجةٍ إلى أن تَتذَكَّر، وأن تستجمع قُواها لمواجهة متطلَّبات الحاضر والمستقبل في المجال المعرفي والحضاري، وأن تنتهي بفضْل وعي وهِمَّة أبنائها للقيام بدورها الحقيقي في المحافظة على الهُويَّة، واستِعادة بعض مَلامِح الوجه المهدَّدة بالضَّيَاع.
ولنتذكَّر أنَّنا في عصر تَلعَب فيه حالة لغات الشعوب - قوةً أو ضعفًا - دورًا مهمًّا في المحافظة على كِيان الأمَّة، أو التفريط فيه، وتركه عُرضَةً لتقلُّبات الأهواء والأحداث من حوله، ولنتذكَّر - أيضًا - أنَّنا في عصر تَحرِص فيه اللغات الكبرى المُسَيطِرة على التِهام اللغات المُنافِسة لها، أو إضعافها وتفتيتها، وأنها تلجأ في سبيل تحقيق ذلك الهدف إلى وسائل علميَّة وتعليميَّة وإعلاميَّة، تَمَّ إعدادُها ودراستها بدِقَّة شديدة، وتَوازَنَتْ فيها المُغريات والعُقُوبات، وتَمَّ دسُّ السمِّ بإحكام في معظم الأحايين، في آنية العسل؛ لكي يَنجَذِب إلى الهدف المرسوم - بوعي أو بلا وعي - أبناءُ اللغة المستهدَفة أنفسُهم، ويكونوا أكبر عَوْنٍ على تحقيق الغاية المُرادَة.
والقُوَى الكبرى التي تسعَى إلى تحقيق مثل هذه الأهداف تَعرِف أنها لا تُحارِب فقط كلماتٍ وقواعد وتراكيب، وتراثًا شعريًّا أو نثريًّا، ولكنها تُحارِب ما يَرمُز إليه ذلك كله، وتسعى إلى السَّيْطَرة على مُقَدَّرات أبناء هذه اللغة وثرواتهم، واستقلال ذواتهم، وصَلابة قراراتهم؛ لكي يكونوا لقمة سائغة في خدمة عجلات الإنتاج ومَطامِع التوسُّع، وتحقق الأمن لدى أصحاب اللغات والأهداف الأخرى.
وذلك هدف أصبح مُعلَنًا على المَلأ لا يخفى ولا يَستَتِر، وهو واضِح أمام كلِّ مَن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق